السبت، 30 مايو 2020

وهم سبق الرؤيا "الديجافو"


أحياناً تخرج مع أصدقائك أو أهلك أو حتى لوحدك، في نزهةٍ أو رحلةٍ لمكانٍ لم تزره من قبل، وفجأةً تشعرُ للحظاتٍ أنّك تعرف هذا المكان جيّداً، وأنّك قد أتيت إليه من قبل، ولكنّك تنسى متى وأين وكيف زُرته، وتحاول التذكر مراراً وتكراراً، ولكن للأسف لن تستطيع ذلك مهما حاولت. 
هنا سوف ينتابك شعورٌ غريبٌ وغامض، والدهشة ستلفّ وجهك، وتتعجب مِمّا يحدث، والفضول الذي بداخلك سيجعلك تتمنّى معرفة ما حصل وكيف حصل.
لذا سأخصّص مقال اليوم لمناقشة هذه الظاهرة الغامضة ومعرفة تفسيراتها المختلفة، سواءً الفلسفيّة أو الدينية أو العلمية.
اللحظات والمواقف وحتّى المشاعر التي تمرّ على الانسان، وتجعله يشعر أنّه أحسّ بها أو رآها أو عاشها من قبل، هو شعورٌ لحظيٌّ لا يتعدّى بِضع ثوان، لكنّه يترك حِيرةً وتعجباً ودهشةً كبيرةً على كلّ شخص يمرّ بهذه اللحظات.
وهذه الحالة أو الشعور العجيب يُدعى "وهم سبق الرؤيا"، ومشهورٌ عالمياً بالمصطلح الفرنسي "ديجافو" ومعناه باللّغة العربيّة شُوهد مسبقاً أو شُوهد من قبل، وبسبب غرابة هذه الظاهرة ودهشتها، حازت على اهتمام عددٍ هائلٍ من علماء الطبّ والنفس والفلاسفة، وكذلك علماءُ الأديان المختلفة، ومناصري نظريات قوى ما وراء الطبيعة من آلاف السنين وحتى يومنا هذا.
لذلك فقد ظهر كثيرٌ من التفسيرات لظاهرة الديجافو، بعضها كان منطقيّاً وبعضها أقرب للخرافات، فبعضُ علماء النفس أرجعوها للخيال الذي يتمتع به معظم الناس، أو بأنّها جزءٌ مجهولٌ من ذكرياتِ العقل الباطن المنسيّة، وكذلك فسروها بتشابه هذه المواقف أو تداخلها مع أحلامٍ مشابهةٍ حلمناها بالماضي.
عددٌ من الفلاسفة القدماء فسروها بناءً على التخاطر Telepathy، أو التنويم المغناطيسيّ Hypnosis، أو حتى بناءً على الأشباح Ghosts أو الأرواح الشريرة Poltergeists، والبعض الآخر من فلاسفة اليونان القدامى اعتبروا أنّ هذه الظاهرة سببها خبرةٌ حياتيةٌ ماضيةٌ عِشناها بعالمٍ آخرَ قبل قدومنا للحياة، وأسموها تجربة ما قبل الولادة BBE اختصاراً لجملة Before Birth Experience.
أما علماء الأديان فكان لهم اجتهاداتٌ خاصةٌ قريبةٌ نوعاً ما من تفسير فلاسفة اليونان، فذكروا أن الأرواح كانت تعيش حياةً أخرى قبل نزولها للأرض أسموها عالَمُ الذُر، ومن اجتهادات علماء الدين الأخرى قولهم أنّ الجنين يرى شريط حياته قبل الولادة وهو في بطن أمه.
وهنا يجب التنويه أنّ كلّ التفسيرات السابقة مجرد اجتهادات لم تقدّم أيّ دليل، ما يجعلها تُصنّف ضمن خانة التفسيرات الفلسفية غير المنطقية.
لكن ما هو رأي العلم الحديث في تفسير ظاهرة الديجافو؟
في الحقيقة يوجد عدة نظرياتٍ علميةٍ لتفسير الديجافو، وسببُ تعدّد النظريات أنّ هذه الظاهرة بحد ذاتها متنوعة ولها أكتر من نمط، مثل رؤية مشهدٍ معين، أو إحساسنا بشعورٍ داخليٍّ مألوف، أو حتى رؤية أشخاصٍ لأول مرة والظن برؤيتهم المسبقة، لذلك فكل تفسير يركّز على نمطٍ محدد.
-أحدُ التفسيرات العلمية المشهورة يربط الديجافو بحاسّة النظر، وهذا التفسير يقول أنّه نتيجة خللٍ معينٍ بالمستقبلات الحسيّة بأحد العينين، يحدثُ تأخيرٌ في نقل مشاهد هذه العين إلى المخ يقدرّ ببضع أجزاء من الثانية، وهكذا تصل مشاهد العين الثانية إلى المخ قبل العين الأولى بلحظات، ويتمّ تحليلها وحفظها بالذاكرة، وعندما تصل مشاهد العين الأولى إلى المخ، يحللها على أنها مشاهد مكرّرة، ويعطينا انطباعاً وهمياً بعيشنا المسبق لهذه الحادثة، ولكنّ ظهر لهذه النظرية بعض العيوب، وأهمها عدم قدرتها على تفسير تداخل الحواس الأخرى بالحادثة، متل السمع واللمس، وكذلك تسجيل حالات ديجافو لبعض البشر الذين يرون بعينٍ واحدة فقط.
ومن هنا اتّجه العلماء لربط هذه الحادثة بنصفيّ الكرة المخيّة، فتوقعوا أنه نتيجة خللٍ معينٍ يصيب الإشارات الكهربائيّة في المخ، تصل السيّالة العصبيّة الحسيّة لأحدِ فصّي المخ قبل الآخر، وهكذا فالفص الذي يستقبل السيّالة قبل الآخر يُحللها ويُترجمها لمشهدٍ يحفظه في الذاكرة، وعندما يستلم الفصّ الثاني السيّالة العصبيّة الحسيّة ويُحللها لمشهد، يكتشف أنّ المشهد موجودٌ ومخزّنٌ مسبقاً في الذاكرة، فيوهمنا عقلنا أنّ هذا المكان أو الاحساس قديم، وأننا مررنا به من قبل.
أمّا التفسير العلميّ الثالث فيدور حول مفهوم شذوذ الذاكرة، فمن المعروف أنّ الانسان وعند استقباله أيّ إشارةٍ عن طريق أحد الحواس الخمسة، فهذه الإشارات تذهب في البداية إلى الذاكرة قصيرة الأمد، ثم تنتقل لقسم الوعي والادراك في المخ، وأخيراً تخزّن في الذاكرة طويلة الأمد.
ولكن أحياناً يحدث تشابكٌ بين الأعصاب المسؤولة عن هاتين الذاكرتين، وتنتقل على إثره هذه الإشارات مباشرةً للذاكرة الطويلة قبل ذهابها للمخ، وهكذا فعندما تصل الإشاراتُ الحسيّةُ لمركزِ الإدراكِ والوعي في المخ، يقوم بترجمتها وتحليلها وتخزينها بالذاكرةِ طويلةِ الأمد، فيكتشف أنّها موجودةٌ مسبقاً بهذه الذاكرة، ما يعطي انطباعاً وهمياً للمخ على أنّها مشاهدٌ مكررةٌ عِشناها من قبل.
وكذلك يوجد العديد من النظريات الأخرى لتفسير ظاهرة الديجافو، مثل النظريات التي تتحدث عن توزيع الوظائف والمهام بين أقسام الدماغ المختلفة، وعن احتماليّات حدوث خطأٍ معيّنٍ بأحد هذه المراكز. أيضاً هناك نظريات أُخرى تربط الديجافو بتأثير بعض الأدوية، متل مادّة الدوبامين التي تدخل بتركيب الموصلات العصبيّة في المخ، ولكن لن أدخل بتفاصيل هذه النظريات وتعقيداتها، لأنّ كلّ النظريات سواءٌ التي شرحتها أم لا، فتصبّ تحت مفهومٍ علميٍ واحدٍ يُدعى "خلل بالمطابقة داخل الدماغ" Mismatching.
وفي سياق الحديث عن تفسير ظاهرة الديجافو، يجب التنويه لأمرٍ بالغ الأهمية، وهو الارتباط الموجود بين الديجافو وتأثيرِ بعض الإضرابات النفسيّة، مثل مرض صرع الفص الصدغي، والذي يُعرف محلياً باسم نوبة الصرع، فكلّ المصادر العلميّة والدراسات النفسيّة عن مرض الصرع، تُأكّد تعرض مرضى الصرع لظاهرة الديجافو بشكلٍ متكررٍ قبل حدوث نوبة الصرع بدقائق بسيطة، والمعروف أنّ سبب نوبة الصرع هو خلل بعمليّة تفريغ الشحنات الكهربائيّة بالمخ.
وحتى لا أُفهم بشكلٍ خاطئ، فأنا هنا لا أقول أن كلّ من يتعرض لظاهرة الديجافو مجنونٌ أو مريضٌ نفسيٌّ أو مصابٌ بالصرع، بل على العكس تماماً فالديجافو ظاهرةٌ طبيعيةٌ تصيب أكثر من ثلثي سكان الأرض.
ولكنّ الفكرة التي أودّ إيصالها أنّ تكرار الديجافو بشكلٍ كبيرٍ عند مرضى الصرع، وكذلك تكرارها بمعدلٍ أعلى من الطبيعيّ عند البشر الذين يتناولون أدويةً تحوي مادة الدوبامين التي تدخل بتركيب أعصاب المخ، فكل ذلك يدعم بشكلٍ كبيرٍ النظريات العلمية التي شرحتها، والتي تصبّ كما ذكرت تحت مبدأ الخلل بالمطابقة داخل الدماغ، وبنفس الوقت تنفي كلّ التفاسير القديمة عن عالم الأرواح وشريط حياة الجنين والقوى الخفيّة والأشباح، وغيرها من التفسيّرات الظنيّة الضعيفة، والخرافات المصاحبة للديجافو.
ختاماً أودّ التذكير بمعلومةٍ مفيدةٍ للجميع، ومفرحةٍ بنفس الوقت، وهي أنّ الديجافو ظاهرةٌ طبيعيةُ وصحية، وحدوثها بمعدلٍ طبيعيٍّ دليلٌ على نشاط دماغ الانسان، وعمله بكفاءةٍ عالية، لأنّه كلّ ما زاد نشاط الدماغ البشري تزيد معه احتمالات حدوث أخطاءٍ كهربائيّةٍ لحظيّةٍ وسريعةٍ داخل الدماغ، وهذا يفسّر سبب تكرار الديجافو عند الشباب بالعمر ما بين 15 و25 سنة بمعدلٍ أكبر من باقي الأعمار، لأن الدماغ البشريّ في هذا السن يكون في قمّة نشاطه، ومع تقدّم العمر ينخفض نشاط الدماغ، وتنخفض معه معدلات حدوث ظاهرة الديجافو، ودمتم بألف خير.
اعداد : محمد هاني حرح
لمشاهدة الفيديو كما عودناكم هنا

2 Comments:

  1. شكراً على الجهود المبذولة والدعم المقدم. وأتمنى أن تكون المعلومات المتاحة ضمن المقال قد حققت الفائدة المرجوة منها

    ردحذف
  2. شكرا لك على هذا الاطراء ، ونتمنى ان نقدم الأفضل دائما❤

    ردحذف