المنبّه يرنّ، وأراه -فيما يرى النّائم- يشدّني من أصابع يدي اليمنى المتدلّية على حافّة السّرير، يوقعني أرضاً، فأستيقظ. أبتسم له ببلاهة؛ إذ إنّه على مدى عامين كان سبباً في أن أراقب ساعات صباحك الأولى: الرّاديو الصّغير الذي تخرجينه مع فنجان قهوتك، لتتناهى إليّ منه أغانٍ عشوائيّة لا تدلّ على مزاجٍ خاص، وبساطة الطريقة المرفوع بها شعرك، والحبق الذي تسقينه بيَد، وتشربين من فنجانك باليَد الأُخرى، وعادتك في التّلفّت يُمنةً ويُسرةً تذرعين المكان كأنّك ترقبين حدثاً ما، لكنّك لا ترينني، لا يلفتك أنّني أنظر تُجاهك، لا تلحظين نحولي، ولا كيف أنّ أصابعي تفرك حديد سور الشّرفة الذي يفصل بيننا، وأنّ تفّاحة آدم ترتبك حين أزدرد ريقي لأقول: صباح الخير، فأبلعها. تغيبين قليلاً، فيضخّم الجدار خيالاتي في غيابك، فأخمّن أنّك تغيّرين ملابسك، لكنّ الحركات مشوّشة، ولا أحبّ أن أُسقط عليكِ طريقة امرأةً أُخرى في نزع ثيابها، الأمر الوحيد الذي أجزم به هو أنّكِ تنظرين إلى نصف عُريك في المرآة، فتبتسمين.
أقف وراء الباب، فأتعمّد فتحه في توقيت خروجك، فتومين بسلامٍ عابرٍ للجوار، ثمّ تنسين ظلّي، فأتبعكِ كالخطوات، والسيّارات، والأطفال الذين يركضون، فتمرّ أناملك على شعر أحدهم محذّرةً من الشّقاوة، فيغلي قلبي، وأتبعكِ "كالغيم المارق"، والعابرين الذين يحقّ لهم أن يشاركوكِ الشّارع، وأظلّ أتبعكِ إلى أن نصل إلى مقهى قريب، فتدخلين، وتسرعين الخُطى نحو طاولةٍ يجلس إليها رجُلٌ يقف بتثاقلٍ كأنّ أمر مجيئكِ عملٌ في السّادسة لأحدٍ لم ينم. لحظة من فضلك، أنا لا أكتب إليكِ عن غيرة، وإن كنتِ تستحقين نار الضّلوع، لكنّني أدرك معنى أن يضمننا الآخَر، فلا يبذل جهداً لإبقائنا تحت ضوء الجذب، فنحن كذلك.
أراقب من خلف زجاج المكان كيف تستعينين بيديكِ لتشرحي أكبر قدْرٍ من الأحداث له، بينما هو يراقب هاتفه، ويقابلك بابتسامةٍ، أو حاجبٍ مرفوع، أو كلمتين يقولهما وهو يكتب شيئاً على هاتفه المحمول، تتوقفين عن الكلام المُباح، فيمسك يديكِ كأنّه يعتذر عن انشغاله، تسحبين يدكِ، فيأتي النّادل ليمنعني من الوقوف خلف الواجهة الزّجاجيّة، فأستسمحه ببضع دقائق، لكنّه يشدّني من يدي، فأعود، فيظنّ بي الظّنون، فيدفعني بعنف بينما ألتفت نحوك، فلا أجدك، فأستسلم للخيبة، وأعترف بأنّني جبانٌ، لا قدرة له في هذه الحياة إلّا على أن ينظر إلى محبوباته وهي في يَد الآخرين، من دون خطوة، ولا مبادرة، وبندمٍ كبير ينهش أيّامي.
تركني النّادل وشأني، وأنا أتراجع نحو الشّارع بقدمين تترنّحان من الفقد، حتّى كان صراخ النّادل آخر ما سمعته قبل أن تُكمل سيّارةٌ مُسرعةٌ على روحي فتقتلني.
تقرئين هذه القصّة في عدد مجلّتك المفضّلة، فتتنمّل أطرافك، وتنظرين ببطء نحو شُرفتي الخالية منّي، من الرّجُل الذي يخسر أفراحه لأنّه يراقبها بساقٍ مكسورة، وفَمٍ أخرس.
بقلم: نور كريدي
|
الاثنين، 9 ديسمبر 2019
النُّوّار الدِّمشقيّ
شارك هذا الموضوع
المواضيع المشابهة :
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
أعتذر عن أيّ عمل لا يرتقي إلى المستوى الفنّي المحترم.
طاهر مامللي لياقوت: أعتذر عن أيّ عمل لا يرتقي إلى المستوى الفنّي المحترم. في موسيقاهُ بُسِطتْ أيادي الهوى حينَ أضواها بهالةٍ...

المشاركات الشائعة
-
شابة استرالية سورية حازت الدرع الفضي من يوتيوب ولمّا تبلغ الثالثة والعشرين بعد، فكيف وجّهت طاقاتها وحياتها لتصنع لنفسها مكانًا مميزًا في ...
-
قبل الخوض في هذا المقال يجب أن تدرك كون هذه الطاقة لاتتحقق دون الإيمان بالذات وقوة الرغبة بالشيء المطلوب، وإن كنت من الذين لايؤمنون بعلم...
-
- يعرّف بأنه مرض مناعي ذاتي يؤثر على الغدد اللعابيّة والدّمعيّة. - مالأعمار الأكثر عرضة للإصابة؟؟ الأشخاص المتقدمين بالعمر هم أكثر عرضة لل...
0 Comments
إرسال تعليق