عندما بحثت عن معنى كلمة (شمّاعة) في معاجم اللغة العربيّة القديمة لأجد تفسيرًا منطقيًّا لهذه الكلمة لم أجد من ذكر تلك اللفظة بمعناها الذي يصطلح عليه الناس اليوم، فقد وردت اللفظة من دون تشديد الميم، وكانت بمعنى الجارية التي تُسلّي، وربّما يكون هذا المعنى -أقصد التسلية- هو المعنى الأكثر التصاقًا بما أودّ الحديث عنه في هذه السطور..
إنّكَ إن أوقفتَ رجلًا عاديًّا مارًّا في الطريق صباحًا -أو مساءً- وسألته عن سبب هذا الذي يعيشه معظم العالم العربيّ اليوم لقال لك بثقة: (لعبة دول كبيرة ومُخطّط، والماسونيّة تقف وراء ذلك)، ثمّ لو سألته ماذا تعرف عن الماسونيّة لقال لك: (جماعة من اليهود يسيطرون على العالم)، ولو سألته ثالثة كيف يسيطر أولئك اليهود على العالم لأجاب: (شعاراتهم على علب السجائر، يفعلون بأيديهم حركات معيّنة، يبنون أبنية على شكل هرم أو مسدّس أو ...)، وهذا الكلام لعلّه رآه في سلسلة القادمون التي ربّما قد روّج لها من يريد لهذا الشعب أن يصل إلى تلك الدرجة من السطحيّة والابتذال..
سلسلة القادمون وغيرها من الكتب التي روّجت لما يُعرف اليوم بالماسونيّة، كان هدفها -والعلم عند علّام الغيوب- الترويج لمفهوم الرعب ممّا يُعرف بالماسونيّة؛ فيروي أصحابها مثلًا أنّ تاريخ الماسونيّة يعود إلى عام 43 للميلاد، وكان (المحفل) الأوّل لها قرابة عام 1600 للميلاد، ثمّ يتابع أصحاب تلك المسرحيّة حديثهم عن المحطّات الفضائية التي يسيطرون عليها، والأبنية التابعة لهم، وأنّهم يبنون المسلّة الفرعونيّة لحبّهم للشيطان الذي يعبدونه، وأنّ عندهم محافل تُقام في طقوس مرعبة، وأنّ الأعضاء في المحفل لا يعرفون بعضهم بعضًا، وغير ذلك من هذا الكلام المكرور الذي سئمنا منه، والذي ليس له هدف سوى جعل الرعب في قلوب الناس من هذه الفكرة، أي الماسونيّة، فإنّ ذِكرَ اسمها اليوم في مكانٍ كفيل بموجات هائلة من الرعب تجتاح قلوب السامعين، وهذا ما أرادوه..
ولكن.. دعونا نُسلّم بما جاء في تلك الكتب وسلاسل الفيديو، ولنَقُل إنّ الكلام حقيقة، ولكن بمَ يفيدني؟ وكيف يمكنني أن أدافع عن نفسي وعن بلادي ضدّ هذا (الخطر) وهذا (البعبع) المُسمّى بالماسونيّة؟
هل أستطيع إذا علمتُ أنّ هؤلاء يعبدون الشيطان أو أنّهم من اليهود -على اختلاف الروايات- أن أفهم تفكيرهم وبمَ يخطّطون؟
هل أستطيع إذا علمتُ أنّ من أبنيتهم الهرم والمسلّة والمسدّس وغيرها= أن أقف في وجههم؟
يعني الذي يريد أن يخطّط ليقضي عليّ ما يهمّ إن جلس في الهرم أو في غرفته أو حتى في المرحاض؟!!!
وبمَ سيفيدني إن علمتُ حركاتهم؟
أو علمتُ أنّهم يسيطرون على شركات السجائر العالمية؟
أو أن أعلم أنّ سلسلة محطّات CNN وFOX NEWS وSKY NEWS وغيرها هي لأثرياء (ماسونيين)؟!
المشكلة الحقيقيّة تكمن في هذا الجيل المحطّم المهزوز الذي لا يريد أن يتحمّل مسؤوليّة أخطائه التي يقترفها، حتى صارت (نظريّة المؤامرة) ترافقه إلى بيته، فإذا اختلف مع زوجته قال: لا بدّ أن يكون أحدٌ ما وراء هذه المشكلة، وإذا انزعج من أبنائه لامَ أبناء الجيران الذين يرسلهم أهلهم إلى الشوارع ليخرّبوا تربية أبناء الآخرين، وهؤلاء الآخرين -غالبًا- تعنيه هو وحده..
اليوم صار إلقاء اللوم والتهم على الماسونيّة الشغل الشاغل للنّاس، فإذا لم يعجب المرءُ سلوك شخصٍ ما من القدامى أو المحدثين صار يطلق عليه لقب الماسوني، فمثلًا طه حسين كاتب مصريّ معروف، له آراء جيّدة وأخرى سيّئة، كان في بداية حياته منبهرًا بالغرب يأخذ عنهم كلّ ما قالوه، فمرّة قرأ مقالة لمستشرق اسمه مرجليوث يقول فيها إنّ الأدب الجاهلي كذبة كبيرة، وقد وضع تلك الأشعار رواةٌ في العصرين الأمويّ والعباسيّ، وهذا الرجل -أي طه حسين- لم يعلم السبب الحقيقي وراء مقالة مرجليوث هذه، فأخذ المقالة كما هي ووضعها في كتابه (في الشعر الجاهلي)، وصار يكررها وينسبها لنفسه، فقامت قيامة الناس في ذلك الوقت وتنبّه أحد المفكّرين الكبار وهو مصطفى صادق الرافعي لهذه المسألة فأصدر كتابًا اسمه (تحت راية القرآن.. المعركة بين القديم المُحدث)، وقد فنّد فيه آراء طه حسين واحدًا واحدًا، ووصل الكتاب إلى المحاكم المختصّة في مصر، فقرروا سحب كتاب طه حسين من الأسواق، وسجنوه عقوبة له؛ لأنّهم رأَوا أنّ الدعوة هذه هي طعن خفيّ في القرآن الكريم الذي هو كتاب المسلمين؛ إذ يرى المسلمون أنّ القرآن الكريم نزل لإعجاز العرب الذي عُرفوا بالفصاحة، كما كانت معجزات السيد المسيح -عليه السلام- لقومه الذين اشتُهروا بالطب، وكذلك نبي الله موسى -عليه السلام- كانت مُعجزاته لقومه الذين اشتُهروا بالسحر والشعوذة.
ولئلّا نذهب بعيدًا عن موضوعنا فإنّ بعض الناس يوجّه تهمة الماسونيّة لطه حسين وزوجته الفرنسيّة سوزان، وحجّة أولئك القوم أنّ طه حسين قد هاجم مبادئ الأمة العربية، ولذلك كانت تهمة الماسونيّة جاهزة، بل وصاروا ينسبون له أقوالًا هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، مع أنّ طه حسين قد عاد عن معظم آرائه الخاطئة، ولكنّهم يحبّون أن يكونوا كذلك..
وهكذا تجري الأمور، كلّ من لا يوافق أهواءنا هو ماسونيّ، وكلّ رجل -أو امرأة- يبرز على السطح هو ماسوني (بإجماع الأئمّة)!
ومع أنّ الحجج السابقة والمعلومات المتوفّرة عن بعبع الماسونيّة غير مقنعة إلى الآن لتجعل منه ذلك العالم الظلامي الذي يُغرقنا بظلامه، إلّا أنّنا يجب أن نحاول استخلاص تعريف من تلك الفِكَر المُضطربة أعلاه، فلنقُل مثلًا في تعريف (الكائن) الماسوني: إنّه الرجل السيّئ الذي يُسبّب تخلّف بلادنا..
وهذا أفضل تعريف استطعتُ أن أستخلصه من تلك الفِكَر (الظلاميّة) أعلاه..
فلو طبّقناه على أرض الواقع لكُنّا جميعًا -إلّا من رحِم- ماسونيين!
فالموظّف الذي يرتشي ويؤخّر أعمال الناس هو يتسبّب بعمل سيئ، ولذلك هو ماسونيّ..
والأستاذ الذي يُدرّس التلاميذ وهو لم يمتلك بعد المعلومات اللازمة ويزرع في عقولهم معلومات خاطئة هو ماسونيّ أيضًا..
والمسؤول الفاسد الذي يتسلّم منصبًا يُخوله التّصرّف بنطاق واسع في بلاده ثمّ يخون الأمانة الموكلة إليه ويعيثُ في أرضه فسادًا= هو ماسونيّ..
والطّالب الذي يستهتر بدروسه ثمّ يتخرّج في الجامعة وقد خرج منها كما دخل، بل وربّما أغبى، ثمّ يستلم وظيفة في مجاله ولا يعلم كيف يُنجز الأعمال الموكلة إليه ويتسبّب بفساد أكبر في بلاده= هو -بلا شك- ماسونيّ..
والذي يبغي الأمور بالواسطة، والذي ينقل من يشاء إلى أيّ مكان يشاء ويُسلّم من يشاء ما يشاء لأنّه ابن رجل (مدعوم)، والذي يسرق وينهب ويقتل ويفعل (السّبع وذمّتها) وغيرهم= هم ماسونيّون بلا شك، وفقًا للتّعريف المستخلص أعلاه..
ما أودّ قوله هو أنّ فكرة الماسونيّة التي تسيطر علينا هي -بصرف النظر عن صحّتها أو كذبها- فكرة تقيّدنا، ولن نتقدّم ما دامت تلك الأفكار النتنة تسكن عقولنا، فما دمنا قد سجنّا أنفسنا في فكرة فلا خلاص لنا منها سوى بتحطيم تلك القيود، وحرق تلك الزنزانة بمن فيها..
وإن كان الماسونيّون يمتلكون كلّ تلك القوّة الهائلة فهذا -بلا شك- لم يأتهم عبثًا، بل هو دليل على همّة عالية وصبر كبير للوصول إلى غايتهم، وإذا كانت غايتهم تدميرنا، وإن كانوا فعلًا قد وصلوا إليها فإنّ هدفهم هذا تحقّق بعد عمل طويل وجهد مُضنٍ، وهو نتيجة حتميّة يصل إليها من يضع هدفًا بين عينيه، ويسعى جاهدًا للوصول إليه..
وما حصل عليه الماسونيون يجب ألّا يكون عائقًا أمامنا، بل على العكس تمامًا يجب أن يكون حافزًا ودافعًا إذا ما علمنا يقينًا أنّ عمر تلك الحركة هو أقلّ بكثير ممّا نتوقّع، أو أقلّ ممّا يحاولون زرعه في عقولنا..
في النهاية أنا لا أنفي وجود تلك الحركة، ولكنّها ستكون أوهن من بيت العنكبوت لو أزلنا ذلك الغبار الذي يكسو عقولنا، ويصنع سحابة من العَفَن فوق أدمغتنا، ويترك فيها فِكَرًا قد عشّشَتْ كما تُعشّش آفاتُ الأرضِ في المياه الآسنة..
دعوا عنكم تلك الفِكَر، واهتمّوا بما أنتم به، وإن كان ثمّة من يتربّص بكم فهذا ليس جديدًا على واقع هذه الأمّة؛ فما مرّ يوم إلّا والعدو يتربّص بها، ولكنّها لم تهِن كما هي اليوم، ولم تقُل سابقًا: هذا بفعل أعدائنا، ولم تجعل شغلها الشاغل مناقشة فِكْر عدوّها؛ بل كانت تعمل وتجد ويتعلّم أبناؤها فيصيرون أعلامًا ما تزال الأمم تهتدي بكتبهم وآرائهم إلى اليوم..
ختامًا: كونوا أنتم بلا تبعيّة، ولا تُأجّروا رؤوسكم لغيركم يصبّ فيها ما يشاء، ولكن كونوا أنتم وهذا يكفي..
بقلم: جعفر الدندل
0 Comments
إرسال تعليق