الأحد، 8 مارس 2020

أدب ما بعد التقاعد

يكثر في بعض البلدان العربيّة عند كثير من الرجال الذين (يعتنقون) السياسة ويشتغلون بـ(التحليل) السياسي على شاشات التلفاز سواء كانوا من حملة الدكتوراه (الفخرية) أو الحقيقيّة أو من حملة الشهادات (الابتدائيّة) كحال كثير من سياسيّي اليوم= أنّهم إذا تقاعدوا من عملهم –المجازي أو الحقيقي- فإنّهم يلتفتون إلى إكمال مسيرتهم (الثّوريّة) بكتابة الشّعر، والشّعر تحديدًا من الأدب يختارون كونه –في نظرهم- الأسهل من بين أنواع الأدب؛ لسبب بسيط وهو أنّهم إذا عجِزوا عن الكتابة وفق أوزان الخليل فإنّهم (يثورون) عليها، والثورة في عرفهم نهج حياة يتّبعونه، فيكتبون شعرًا منثورًا أو نثرًا مشعورًا أو أيًّا كانت التّسمية، فالمهم أنّهم يكتبون ويُتحفوننا بما تجود به خواطرهم من أدبٍ رفيعٍ عالي المستوى..
المشكلة إلى الآن ليست كبيرة كفاية وإن كان فيها تعدٍّ واجتراء على أقدس آداب العرب، ولكنّ المشكلة تكون حين يتصدّر أولئك القوم الواجهة الثّقافيّة التي تعكس صورة الدّولة التي ينتمون لها، بل ويصرّون على التّمادي والظّهور في كلّ وسيلة إعلاميّة تُكسبهم مزيدًا من الشّهرة التي يطلبون حتى لو كانت جريدة إعلانات لا يؤبه لها.. ثمّ يأتي من يكرّمهم ويساهم في إيصال أصواتهم إلى جيل لا يعلم عنهم سوى الكلام المكتوب عنهم في الوسائل الإعلاميّة التي عادة ما تُلمّع صورة معظم الذين يُطلّون على العالم من خلالها..
وحقيقةً فلجوء المشاهير من السياسيين والأثرياء والمشاهير إلى الأدب في نهاية حياتهم ليس حِكرًا على العرب والطائفة المذكورة أعلاه، بل كثير من مشاهير الغرب يلجؤون في أواخر حياتهم لكتابة مذكّراتهم ومن ثَمَّ يجعلونها في كتاب على أنّها سيرة ذاتيّة، وكثيرًا ما (يحترم) أولئك الغرب آدابهم وثقافتهم فيلجؤون إلى كاتبٍ ماهرٍ ذي لغة جذّابة وسلسة ليكتب لهم سيرتهم الذّاتيّة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.. فيكتبون بداياتهم التي عادة ما تكون قاسية، ثمّ طريقهم إلى الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم إلى أن وصلوا إليه.. فتجد سيرة ذاتيّة لبيل غيتس أثرى رجال العالم، والسيرة الذاتية لستيف جوبز، والسيرة الذاتية لمالكوم إكس، والسيرة الذاتية لبيل كلينتون وغيرها الكثير، وكلّها تحمل كلامًا مهمًّا يجدُرُ الاطّلاع عليه سواء اتفقنا بالفكر والمعتقد مع صاحبه أم لا؛ فليس هنالك كتاب يُقرأ بلا فائدة، فإمّا أن تستفيد من عزيمة النّاجحين وتعرف كيف تواجه الحياة وكيف تُخطّط للحاضر والمستقبل، وإمّا أن تأخذ درسًا من ذلك الأدب (العالي) الذي يكتبه سياسيّو العرب لتمجيد مسيرتهم (الثّوريّة) وقضيّتهم التي لا يعلم أحد ماهيّتها، ولا حتّى هم..
ما أودّ قوله ختامًا هو أنّ الغرب عندما يكتبون سيرة ذاتيّة؛ فهم يفيدون مجتمعهم من صدق مع مجتمعاتهم يتعلّمونه في المدارس منذ الصّغر، فكلّ واحد منهم يكتب ما مرّ به للوصول إلى هدفه، فيُفيد التّالي الذي سيقرأ له فلا يقع في نفس المتاعب التي وقع فيها الأوّل، وأمّا في البلدان العربيّة عند أولئك المذكورين أعلاه فأيّ شيء سيستفيده القارئ من قراءة سيرتهم (المُشرّفة)؟ لذلك فكتابة الشّعر الحماسي يجعلهم يواصلون مهنتهم التي مارسوها زمنًا طويلًا وهو (بيع) الكلام والوطنيّات كثيرًا، وبذلك يبقون في تلك الحالة من الكذب إلى أن تحين لحظة الحقيقة الوحيدة التي يرونها في حياتهم ثمّ لا يرَون شيئًا بعدها..
وأخيرًا فلا ينبغي الانجرار وراء أسماء رنّانة لامعة تأخذ جوائز نفيسة المظهر، رديئة الجوهر، ولكن التّروّي وعدم الحكم على اسم من الخارج، فلا بدّ من النّظر بإنعام إلى ما وراء الزّخارف الخارجيّة؛ فقديمًا قالت جدّاتنا إذا ما أرَدْنَ ضرب مثلٍ على شيء باهر المظهر ورديء الجوهر: "مثل مقبرة اليهود".
بقلم: جعفر الدندل

0 Comments

إرسال تعليق