أفما آن لنا -أيها السادة- أن نُمسك العصا من مُنتصف، فلا هي إلى يمينٍ مائلة، ولا إلى شِمالٍ ذاوية؟
قد يأخذ عليّ قائلٌ بادئ ذي بدءٍ بقوله: لا يُمسكُ الدين من مُنتصف، فما هو إلا أن يكون حقًّا كلهُ أو أن يكون باطلًا كله.
وهذا حقّ؛ فإن الدين عقائدَه وشرائعَه وجليلَ كتابه وعطِرَ سنته, فنعم, ولا نُجادلُ في هذا، ولكن ما سوى ذلك مما لم يرد فيه نصٌّ قطعيُّ الدِّلالة والثبوت برُخصةٍ أو حُرمة، فأمُره موكولٌ إلى قياس الأمثال والأشباه، واجتهادِ عُدول العلماء وثِقاتهم, ومن ثمَّ فإن الأمر قد يختلفُ في المصبّ والمظهر، وإن توافق في المنبع والمَخبر..
فهؤلاء العلماءُ كلٌّ يقيس الأمر ويردّه حسْب فهمه لكتاب الله وسنّة رسوله, ويُرجعه إلى ما استقرّ عليه فهمُه وتحصيله, وبذلك فقد يختلف اجتهاد عمروٍ في "حدِّ الرَّضَاع" مثلاً عن اجتهاد زيدٍ فيه، رغم أنه لا يختلف في "أحكام الميراث" عند ذات الرجلين؛ لأنه جاءت بهذا قواطعُ الأحكام ولم تأتِ بذاك
فتلكم هي الركيزةُ وذلكم هو المرجع؛ فإنَّما جاء به القرآنُ من قبلُ وفصُحَت عنه السّنة -فهي للقرآن رديفة- لا يحتملُ أن يُردّ إلى عقل زيدٍ أو غيره؛ ذلك أن بارئ العقل وزيدٍ والخلق جميعًا هو الذي قطعَ بهذا, ونحن لحكمه تَبَع، أما المُشتبهاتُ التي لم يقطع بها خالقُها -فهيَ أصلحُ بهذا الوجه لأمور العباد وألين- فكلٌّ يأخذ من الحُكم ما يتناسب وطريقةَ فهمه واستيعابه ومقدرة ورعه، وتطبيقه من قبَل الناس, ولو علم اللهُ خيرًا في قطع آيةٍ -جرت فيها أقلامُ العلماء- إذن لقطعَ الحُكم فيها وأجراهُ على أحد الوجوه وأصوبِها, ولكنه -سبحانه- أقسطَ لعباده إذ ترك لهم الخِيرَة في بعض شأنهم..
وقديمًا غلا بعضُ الناس -كما المعتزلة- في إعلاء شأن العقل وقدرته على الاستنباط والاستدلال حتى في مقاطع الأحكام, فعطّلوا بذلك النصَّ وصادروا النقل؛ فالعقلُ مهما سما شأنه لا يبلغُ به أن يقول بما لم يقل به خالقُه, فنشأ عنهم من لا يقلّ عنهم مغالاةً وتنطّعًا، ولكن على الضّفة الأخرى؛ فهؤلاء أهملوا دور العقل وقدرته على استنباط الأحكام وإنزالها في مواضعها، وعنّفوا أصحاب الرأي وقالوا بكُفر بعضهم؛ إذ النصُّ عندهم كلُّ شيءٍ وغاية المُنتهى, والرأيُ والعقل عندهم لم يُخلقا لمثل هذا.
ونحن وإياهم على الشّرط نفسه, ولكن في نصوص المقاطع, أما ما ثبتَ له غيرُ وجه، فلسنا نُقرُّهم عليه.
والحقّ أن الفريق الثاني قد عمَدَ إلى الثغر ليسدّه فزاده خرقًا, فكان كمن أطفأ ناره بزيته؛ فلستُ أرى العقلَ والنقل ضِدّين؛ لكنّما يكّمّل أحدُهما الآخر, فهما كفرسَي رهان, يفصحُ أحدهما عن صاحبه؛ إذ لا نتعقل كلامَ النصّ ونتدبره بغير العقل, وهو بعدُ صنيعةُ الخالق الذي أنزل الكتابَ -سبحانَه- وما أوجدهُ إلا لنتدبرّ به، لا لكي نبقيَه قعيدَ الخُمول, والعقلُ بعدُ مناطُ التكليف الذي يُلزم صاحبَه بالنصّ, فمن أسقطهُ فكأنَّما أسقطهمَا معًا, عقلًا ونقلًا
فأما قواطعُ الأحكام فلا نردّها لسوى النقل, وأمّا ما عداها فيجتهدُ فيه كلٌّ برأيه ويتدبّره حسْب علمه, فإن قيل: قد فنيت تلك الفئة التي كان بوسعها أن تجتهدَ فتصيب -لقرب عهدها بالوحي- فنقول: إنّ هذا يشبهُ نعيَ الأمّة وينذرُ بفنائها؛ فلكلّ عصرٍ رجالٌ يُنتدبون لما نشَأ من مسائلَ لم تكن حاضرةً من قبل, فيكونُ عليهم أن يُخرجوا لها من الاجتهادات والأحكام ما يوافقها؛ فتطورُ الأزمان يقترنُ به تطورُ المسائل، وهذه تحتاج للرأي فيها يُساند النقل ويكونُ رديفه, فلا نكونُ بدعوى التحوُّط قد عطّلنا عملَ العقل جُملة، ولا أقررناه دونًا عن النقل جُملة, فنضيّق بذلك واسعًا, فلا يسَعُ الناسَ حينئذٍ إلا أن يجترحوا الحرام الذي أجمعَ كلا الفريقين على حُرمته!
فما نكون قطعنا بهذا أرضًا ولا أبقينا ظهرًا, كجادعٍ أنفه بيده, وما ذلك بالوجه الذي نخرج به إلى الناس.
بقلم: زياد وهبي
0 Comments
إرسال تعليق