الجمعة، 27 ديسمبر 2019

بين الشام والخليج.. نحو نظرة جديدة

منذ أيّام أرسل لي أحد أصدقائي في دولة الكويت إعلانًا عن دورة ستُقام هناك في كيفيّة التّعليق على كتب التّراث، وهذه الدّورة تُفيد كثيرًا المُشتغلين في تحقيق المخطوطات، وكذلك طلبة العلم الذين يكون جُلّ اعتمادهم على كتب التّراث، والمفاجأة أنّ القائمين على هذه الدّورة عالمان كبيران من علماء اللغة العربيّة..
وقفتُ كثيرًا على الإعلان، ليس لأهميّته، ولكن لأنّ مثل هذه الدورات لا تُعطى في مكان عادي، فهي تشبه الذهاب لحضور مسرحيّة؛ ولا يُعقل أن تُطالب أهل بلد بحضور مسرحية ما وعندهم ما هو أولى!
فكذلك تلك الدورات، فلو لم يكن قد اقتنع أهل ذلك البلد بما هو دونها لما تجرّأ عالم بوزن سعد مصلوح أن يُعلن عنها..
ربّما معرفتي بدول الخليج وثقافة أهلها هي ما دفعني لكتابة هذا المقال، وربّما لا يكون الأمر الذي ذكرتُه أعلاه مهمًّا كفاية، ولكنّه كان الشّرارة التي أشعلت شيئًا ما في داخلي دفعني للكتابة..
أذكر ذات مرّة أنّ ممثّلًا معروفًا من القامات -كما يقولون- شاهد رجالًا من شرق سوريا يرتدون لباسًا عربيًّا وقد دخلوا إلى مطعم في ساحة عرنوس في دمشق، فهمهم غاضبًا: يجب أن يُمنع هذا اللباس الصحراوي في دمشق!
بينما ننشغلُ نحن ومعظم شعوب المنطقة بإطلاق التصريحات والتُّرّهات هنا وهناك ونسخر من الشعب الفلاني للباسه ونسخر من غيره بسبب طريقة حياته يكونون يشتغلون بإصلاح ثقافاتهم وجامعاتهم ومؤسساتهم وكلّ شبر من مجتمعهم، بينما نقول عنهم: متخلّفون والدّليل ارتداؤهم (للغلابية والشماغ).
أذكر مرّة أنّ أحمد الشقيري قد زار مدرسة في جدّة ورأى تجارب طلبتهم في الكيمياء أعتقد أو الفيزياء، فقال ممازحًا مدير المدرسة: هذا يعني أنّ الذين يرتدون (الغلابيّات) ويأكلون المكبوس يمكنهم الابتكار!
هذا التعليقُ لم يأتِ عبثًا، فهو نابع من جملة طرقَت أسماعهم كثيرًا حتّى صاروا يسخرون منها، وصارت -ربّما- دافعًا يدفع بعضهم نحو مزيد من التّطوّر والثّقافة والفن..
الذي أريدُ قوله صراحة هو أنّ تلك الشّعوب -أعني معظم سكّان الخليج- قد تفوّقت علينا في معظم مناحي الحياة الثّقافيّة والعلميّة، وإنّ الدّارس لأحوال الشّعوب هناك يعلم تمامًا صدق مقالتي..
نحن لا ننظر إليهم أكثر من نظرة ذلك الممثّل الذي اختصر ثقافة شعبٍ كاملٍ وحضارتهم بلباس لم يُعجبه، بل ويرى أنّه من غير اللّائق دخوله إلى دمشق، ونظرة ذلك الممثّل ومعظم الشّعب إلى أنفسهم تتلخّص في عدّة جمل، منها على سبيل المثال لا الحصر: (حضارة 7000 سنة)، (بلد الياسمين)، (نزار قباني)، ونظرتهم إلى غيرهم من تلك الشعوب أيضًا يمكن أن تُوجزَ في عدّة عبارات، ومنها: (شعب يعاني القمل)، (همج)، (متخلفون)، (يشربون بول البعير)، (يأكلون بشراهة)، ... إلخ.
الفكرة باختصار تكمن في الاحترام أوّلًا، هذا الذي افتقدناه لأنفسنا أوّلًا، وافتقدناه كثيرًا تجاه غيرنا -وكان قبل ذلك حاضرًا ولكن بوتيرة منخفضة- بعد سنوات الحرب هذه، فمن مزايا هذه الحرب أنّها كشفت عن سوآتنا التي كنّا نواريها بأوراق مهترئة ما لبثت أن حالت رمادًا مع أوّل قنبلة صغيرة تنفجر في بلادنا..
إنّ من مزايا الشعوب هناك أنّها شعوب مُحترمة، والاحترام لا يأتي من الفراغ، وإنّما هو وليد حضارة قد ضربت جذورها وامتدّت في شرايين تلك الشعوب لتستحيل ثقافةً ووعيًا واحترامًا للآخرين قبل أنفسهم.. إنّنا مهما أقمنا المهرجانات والاحتفالات ومهما ردّدنا من شعارات وخُطب لنزعُم أنّنا مثقّفون فإنّ ذلك لن ينطلي على الحكيم إذا لم تتمثّل تلك الشّعارات (الرّنّانة) في أخلاقنا، فمن دون الأخلاق لن تقوم لنا قائمة، ولن تقوى شوكتنا ما دمنا نكذب في كلّ شيء..
طبعًا لا يُفهم من حديثي أنّني مع كلّ ما يحدُث هناك، ولكن فحوى كلامي أن يحترم كلّ منّا غيره، ويأخذ كلّ منّا من غيره ما يراه صحيحًا من وجهة نظر العاقل وليس من وجهة نظر شخصيّة، ثُمّ ليُكمّل كلّ منّا الآخر لنصل في النّهاية إلى آليّة ترتقي بنا ولا نبقى نسير خلف الأمم..
أمس شاهدتُ مقطع فيديو لبروفيسور صينيّ يحكي فيه عن القوّة الصّناعيّة المختلفة التي يجب أن تمتلكها الشّعوب ليكون لها وزن في العالم، وضربَ البروفيسور مثالًا على أمّة كبيرة يبلغ تعداد سكّانها 450 مليونًا تقريبًا، ويبلغ عدد دولها 22 دولة -وطبعًا يقصد البلدان العربيّة- ومع ذلك فهي (تُهان) صباح مساء من (دولة) صغيرة لا يبلغ تعداد سكّانها سبعة ملايين؛ لأنّ هذه الدّولة امتلكَت مقوّمات الدّولة الصّناعيّة الكُبرى، وتلك الدّول لم تمتلك بعد القوّة الصّناعيّة مع أنّ عندها موارد (يغبطها) كُثُرٌ عليها..
ما وضعتُهُ بين قوسين هو كلام البروفيسور، ولم أُغيّره لنعلم جميعًا كيف هي نظرة الشّعوب (الصديقة) لنا، فكيف بمن هم أعداؤنا؟
وطبعًا هو -كغيره من الشّعوب الأجنبيّة، وبعض الشّعوب العربيّة- ينظر إلى إسرائيل على أنّها دولةٌ لها سيادة مهما قُلنا وردّدنا أنّه كيان صهيونيّ غاصب وليس إسرائيليًّا* وليس دولة؛ لأنّ الكلام دائمًا إذا لم يقترن بفعل يبقى كلامًا لا قيمة له، كمعظم دول بلاد العرب اليوم أمام الغرب، وهذا الذي قاله ذلك البوفيسور..
والخلاصة أنّنا -والكلام يشمل كلّ بلاد فيها حرفٌ عربيٌّ يُنطقُ- لم نمتلك مقوّمات الثّقافة والأخلاق التي يمكن لها أن تنتشلنا من هذا الواقع، والتي تبدأ من المصالحة مع الذّات، ثمّ احترامها، ثمّ احترام غيرها وقَبوله، ثمّ تشخيص أوجاعنا الحقيقيّة والاعتراف بها، وبعدها سنجدُ أنّ الحلّ جاهزٌ وبانتظارنا.. ولكن هيهات أن يكون ذلك إن لم نمتلك الشّجاعة التي دونها شوك القتاد..


*إسرائيل هو اسم نبيّ الله يعقوب والد نبيّ الله يوسف عليهما السلام، وقد اختاره الصّهاينة اسمًا لهم ليُضفوا على دعوتهم صبغةً دينيّة تجمع بذلك كلّ يهود العالم تحت هذا الاسم، لأنَّ اليهود قديمًا كان اسمهم بني إسرائيل= وعليه فلا يصحُّ إطلاق هذا الاسم على مجرمين سفلة قد أتَوا إلينا من عدّة دول أوربيّة، ولا يجوز شتم هذا الاسم.
بقلم: جعفر الدَّندل

0 Comments

إرسال تعليق