لكن ما الذي تشعر به، وأنت تجلس وجهاً لوجهٍ مع حبيبٍ سابق؟ هذا ما أجابت عنه دمشق اليوم.
لم يرمني الحُب على أعتاب الوله كما رماني على أعتابها ولِهاً كبرَ مع محبوبه، عايشه، سكن زمانه ومكانه، رآه كيف ينتقل به المشهد من لَعب طفولته إلى اندفاع مراهقته، ثمّ إلى زهو شبابه، وكتب يوميّاته معه كي يحفظ الحبر ما تنساه الأيّام؛ ولعب معه (الطّميمة)؛ هذا يختبئ، والآخر يبحث عنه بداخله، فيجده أحداثاً في صفحة العمر؛ هذا كلّه أعادته دمشق في يومٍ واحدٍ قرّرت أن أمشي فيه في شوارعها العتيقة. سنوات، وأنا أُحمّل اسمها عبء القلب الغاضب، مقطّب الجبين، الذي انسحب إلى زاويةٍ من العتمة لا يريد فيها مزيداً ممّا يتعلّق به، لتأتي أوّل ريحٍ فتقتلعه، كأنّي -وأنا العاقل- قد جرّدت منها إنساناً ألومه، وأشتمه، وأضرب صدره المحبوب في ساعة تخلّى عنّي فيها، ورحت أعلّق على وهم إنسانها ما أباحته في حانةٍ يسمّونها وطناً، وصرت أراها كما يرى المرء حبّه يُسرق من يده ضاحكاً، فتراه يركض نحوه، يخرس الضّحكة العاهرة، ويبكي، يبكي، من قدمين لا تحملانه لاسترداده، ويدين عاجزتين عن قتل سارقيه.
بكيتها حبّاً في هذا اليوم، دخلت المقهى الذي كنت فيه، وألقت عليّ نظرةً تقول: "أتحبّني بعد الذي كان؟" فردّ قلبي: "ما أحلى الرّجوع إليه"، لكنّها ثوانٍ من وهم الحالم تخترعها عاطفته، ولم أكن في صدد أن أشرح لها كم أنّه ليس غريباً أن يفقد المرء لهفته تجاه المكان الذي أحبّ، عندما لا يعود يرى فيه انعكاس ملامحه، ولا رؤاه، ولا ناسه، ولا تُمسح له فيه دمعة، وينام نصف النّوم، بعينٍ قلقةٍ خائفةٍ ممّا لا تعلم.
كان لا بدّ من اسمٍ، من شمّاعةٍ يحلّ عليها هذا الغضب كلّه. كان لا بدّ من بلد. كان لا بدّ من دمشق..
بقلم: نور كريدي
0 Comments
إرسال تعليق