الثلاثاء، 4 فبراير 2020

الحُلُم الأَبيَض

لقد بات راسخًا في أذهان الشعوب العربيّة أنّ على ابنهم إذا ما أرادوا أن يضمنوا له مستقبلًا مميّزًا أو مُرفّهًا أن يبدأ ذلك من حياته الجامعيّة، أو ربّما قبل ذلك حين يُرغمون أبناءهم على اختيار القسم العلميّ في الثّانويّة تمهيدًا لهم لدخول الفرع الذي يحلم به أولئك الأهل، وهذا الفرع بات معروفًا للجميع.. الطّبّ البشريّ..
أن يرتدي الابن العربيّ (المريول الأبيض) هو حلم الأهل؛ إذ كلّ ما هو دون ذلك هي فروع مُتدنّية رديئة يتعلَّلُ بها الذين يدخلونها لأنّهم لم يتمكّنوا من بلوغ قمّة الهرم، وهو تخصّص الطّبّ البشريّ.
ليس معلومًا ذلك الوقت الذي تواطأ العرب -بمعظمهم- فيه على تسمية الطب البشري أفضل الفروع على الإطلاق، ولكنّ المعلوم هو ما نراه اليوم من تدنٍّ في كلّ شيء، حتى في الأحلام التي يعيشها العرب..
لو سألتَ امرأً ما لماذا تريد لابنك أن يكون طبيبًا فما أوّل إجابة ينطق بها؟ سيقول (لأباهي) به أمام النّاس، هذه الكلمة تحديدًا، أُباهي، الأب يباهي بابنه أمام أصدقائه وزملائه، والأمّ تباهي به أمام جاراتها وصديقاتها وقريباتها ومعارفها وصديقاتها على الفيسبوك وبنات أشقائها وشقيقاتها وأبناء أشقّاء زوجها وشقيقاتها، وكلّ بشريّ يدبّ على الأرض..
ولكن ماذا فعل هذا الابن الطّبيب (المُنتظر) ليستحقّ كلّ هذا الحماس وهذه الدّعاية الكبيرة؟!
لا شيء يُذكر سوى أنّه سيصبح طبيبًا، أو بأحسن الاحوال سيكون طبيبًا ماهرًا يذيع صيته في تلك المدينة..
وهذا كلّه يصبّ في غرض واحد -على الأقلّ عند معظم الناس من تلك الطائفة- وهو أنّ ابنهم سيجني مالًا وفيرًا من عيادته تلك..
أذكر حين كنتُ في الثانويّة كان لي زميلٌ يحضر معي في معهد مسائيّ دورة للغة الفرنسيّة أو الإنكليزيّة، لا أذكر تمامًا، كان عمّه طبيبًا معروفًا في المنطقة، هو طبيب معروف، ولكن معروف بماذا هذا أسكت عنه الآن.. كان يجلس مع صديق له على باب المعهد قبل قدوم الأستاذ، أذكر مرّة أنّي سمعته يقول له: يا أخي الأستاذ مهنته لا (تطعمي) خبزًا، غدًا حين أفتح العيادة سيكون دوامي كباقي الأطبّاء صباحيًّا ومسائيًّا، ولنقل إنّه سيأتيني في الصباح ثلاثون (زبونًا) -قال كلمة زبون كما هي، وكما رأيتها على باب عيادة طبيبة في دمشق من أمهر الأطبّاء في طبّ الأطفال- وفي المساء عشرون، فإذا أخذتُ من كلّ واحدٍ منهم ألفي ليرة سوريّة بين تخطيط و(لا أدري ماذا أيضًا فهو كان يريد أن يختصّ بأمراض القلب)= فإنّ يوميّتي ستتراوح بين الـ٧٠ والـ١٠٠ ألف ليرة سوريّة، ما كان يعادل ألفي دولار أمريكيّ في ذلك الوقت، عام ٢٠١٠م..
طبعًا لم أكتب لأنتقد دخل الأطباء فهذا رزقهم قد قسمه الله -تعالى- لهم، ولكن لأوضّح لوالده العزيز أنّ هذا ليس طبًّا، وهذا فِكر تاجرٍ قد لبس لبوس الطبّ الذي كان العرب فيما مضى يرونه أحد "أشرف العلوم"، أو لنقل هو ثاني أشرف العلوم بعد تعلّم المرء العلوم التي تتّصل بمعرفة لغته وثقافته وأمور أخرى..
عند الغرب اليوم النظرة ذاتها التي كان العرب ينظرون إلى الأمور من خلالها في طلب العلم قديمًا، فعندما أدركوا أنّ العلوم الإنسانيّة هي الأساس في نهضة المجتمع أولوها اهتمامًا خاصًّا، فأدّى ذلك إلى النجاح الباهر الذي يعيشه الغرب اليوم، فمثلًا أفضل جامعة في العالم اليوم هي جامعة هارفارد الأمريكيّة، ولم تبلغ هذه المرتبة لولا أنّها كانت الجامعة الأولى في العلوم الإنسانيّة إن لم تخُنّي الذّاكرة..
العلوم الإنسانيّة هي التي تبني المجتمعات وليس العلوم الكونيّة، ولم نسمع عن عصر من عصور القوّة التي مرّت بها حضارتنا السابقة أنّنا بلغنا ما بلغنا بعلوم الطب والهندسة، وإنّما التقدّم في العلوم الكونيّة هو تحصيل حاصل لنهضة المجتمع، ولا ينهض المجتمع سوى بنهضة العلوم الإنسانيّة..
ما أودّ قوله لئلّا أُطيل على القارئ هو أنّ دراسة الطبّ هي حقًّا مهمّة، ولا يستغني المجتمع عن أطبّائه الذين هم عمدته وقوامه، ولكن على المرء الذي يريد دراسة هذا الفرع أن يكون نظره أبعد من النقود التي تنتظره بعلم الغيب؛ فكلّ امرئ في هذا العالم له رزق مقسوم يسعى إليه سعيًا، ولكن ينبغي له أن ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى النجاح في هذا المجال الذي يدرسه، والنجاح لا يعني أن يتخرّج في جامعته من دون رسوب وبعلامات عالية، ولكنّ النّجاح أن يصنع ما لم يصنعه غيره قبله، وهذا ما يُعرف بالإبداع الذي قد نحصره أحيانًا في الرسم والموسيقا والكتابة الأدبيّة، ولكنّ الإبداع أن نأتي بالجديد دائمًا.. الجديد الذي يسعى إليه كلّ من له لبٌّ يعقل به.. 
في كلّ يوم يظهر أمامنا مرض جديد يحتاج إلى أطبّاء مَهَرَة يبحثون عن علاج له، ودائمًا العلاج يأتي من الغرب؛ لأنّهم لم يدخلوا ذلك الفرع ليعدّوا (الزّبائن) الذين سيدخلون عياداتهم كلّ يوم..
بل ربّما قد تناهى إلى قلوبهم إيمان صادق بأنّ المال يأتي دون سعي، بل هو تحصيلٌ حاصل، وإنّما المهمّ هو الإبداع في أيّ مجال يدخلونه.. ورحم الله الرافعيّ الذي سُئل ذات يوم: "ما وصيّتُكَ إذا حضرتْكَ الوفاة؟ فقال: هي تكرار المبدأ الذي وضعته لأولادي: النجاح لا ينفعنا، بل ينفعنا الامتياز في النجاح".
بقلم: جعفر الدندل

0 Comments

إرسال تعليق