ديدن الفن ألا يتفق فيه الجميع، وديدن الجمهور ألا يجتمع على حب واحد منه مهما بلغت قيمته ومهما حاز من الجمال؛ فهذا الأخير أيضا وليد الذائقة التي تنفخ فيه من روحها.
والفن يقصد _من غير قصد_إلى غربلة جمهوره، فما أن يعجب واحدهم حتى يسوء الآخر، فينجح بقدر ما ترجح كفة الإعجاب على كفة غيره. ومعيار النجاح هنا ليس يوازي معيار القيمة والثقل في حال من الأحوال، فقد يحمل الفن وجهاً من أوجه القيمة وثقلا خاصا به حتى وإن لم يعجب الناس.
ولكن من سوء التقدير أن يقدم الصانع منتجاً يقصد فيه إقصاء عدد غير قليل من الجمهور سيما وإن كان هذا المنتج لا يحمل جديدا يستحق ذلك الإقصاء.
هذا ما قد بدا واضحا منذ بداية (شارع شيكاغو) العمل الذي عمد إلى إقصاء صغار الجماهير منذ طرح البوستر الأول للعمل، ثم إقصاء شريحة غير قليلة من المجتمع العربي عامة والسوري خاصة ممن لا يفضلون تلك المباشرة بالطرح وإن كانوا يرون ما هو أكثر في الواقع.
وقد حاول صناع العمل التحايل على الجمهور بطرح شارة لا تشي بالمضمون؛ فمن يرى شارة العمل يحسب أنه أمام مسلسل توثيقي من العيار الثقيل بطابع سياسي ليس فيه هذا الكم الكبير من العلاقات العاطفية التي لم تكن موفقة مع وجود عدد كبير من فناني سورية.
ليصحو المشاهد بعد الحلقات الأولى بخيبة تحمله على الاستياء مما كان يمكن أن يتابعه بصدر أرحب لو لم يشعر بالغبن، فلم يكن هذا الإغراء البصري لينقذ العمل بل على النقيض من ذلك؛ فلم نر مسوغا لوجود غيفارا في الحلقات الأولى سوى إضفاء الغرائبية على المشهد الخفيف ليغدو ثقيلا، ولم نر في شخصية مراد عكاش صحافيا غارقا في جو السياسة، كما فقدنا الكثير من التفاصيل حول شخصيات العمل، فلا حياة خاصة لنور الهدى ولا تفاصيل دقيقة عن حيوات صاحبات الحانات مع أن الكاتب جعلهن بطلات مهمات حاول جعل المشاهد يتعاطف معهن ولا أراه وفق إلى ذلك.
أما القبلات التي تخللت العمل فهي أحد ثقوبه التي غربلت جمهوره بدل أن تخدمه كما أُريدَ بها؛ فلم تكن منطقية ضمن السياق الدرامي.
وقد يظنُّ ظانٌّ أن من يذهب هذا المذهب مدفوع بدعوى الخوف الاجتماعي والعادات وقد يدافع آخر بدعوى أن ما يحدث في الواقع أكثر بكثير مما رأيناه في العمل، فأقول بلى ولكن، هل تعجز الدراما عن إيصال ما هو موجود من غير تلك المشاهد التي لا تناسب الجمهور العربي وإن كان يرى أكثر منها في الخفاء؟ فذلك ليس يعني أن تعرض الدراما علاقات الحب بتلك الفجاجة والمباشرة والخواء.
ولو عدنا إلى الدراما السورية قبل عقد أو عقدين فلا نجدها تتعرض لمثل هذه المشاهد مع أن المجتمع السوري لم يكن مثالياً ولا نقياً بالدرجة المصورة نفسها آنذاك. فرأينا الكثير من الأعمال التي تناولت قضايا في غاية الحساسية وعرضت لخطوط حمراء في المجتمع السوري دون أن تضطر إلى مشاهد تغربل جمهورها؛ الأمر الذي رأيناه في مسلسل (قلم حمرة) العمل الذي يحمل اسم الخمارة التي تجمع شخصيات العمل والتي لم نر فيها أي قبلة، بل أحاديث سكارى ومشاريع لعلاقات غير مشروعة لم يضطر المخرج لتلقيمنا إياها بالملعقة.
وبالعودة إلى أعمال قديمة رسخت في الذاكرة السورية نرى العائلة السورية في (الفصول الأربعة) تمثل المجتمع السوري بكافة طبقاته إلا أن العمل عرض هذا المجتمع بأفضل صوره الممكنة لا بأسوأها دون ان يوهمنا بمجتمع مثالي بل جعلنا نرى المجتمع كما يجب أن يكون في ظل ما هو كائن بالفعل.
وقد يقول قائل إن العمل يقدم فكرة جديدة وصورة مغايرة للمألوف، وهو ليس صحيحا، فقد قرأنا اتهامات وجهت لكاتب العمل بالسرقة كان أحدها من الكاتب العراقي شاكر الأنباري، الأمر الذي لا يمكن تصديقه أو تكذيبه فتداخل الأفكار والنصوص موجود منذ القدم في الأدب والفن طالما أن هذه النصوص مستقاة من معين واحد هو الحياة.
لكننا لا نجد جديدا طرحه العمل في الدراما السورية خاصة، فقد وقعنا على مثل هذه الحكاية في مسلسل (زهرة النرجس) لكاتبه الأستاذ خلدون قتلان، العمل الذي يحكي قصة فتاة تهرب من بيت أهلها لتتزوج ثم تعمل في الغناء وتواجه الحياة وحدها لتختفي فيما بعد وتبدأ رحلة البحث عنها بعد زمن طويل ليكتشفوا فيما بعد أنها ماتت ودفنت على كتف النهر في قريتها. ومع اختلاف التفاصيل في الحكايتين إلا أنهما تلتقيان في الهيكل العام لهما كما يجمعهما البطل العاشق الذي جسده النجم مهيار خضور في كلا العملين.
فإن كان العمل قد قدم جديدا فيمكن القول _إنصافا للجهود المبذولة_ إن الإخراج هو الأمر الوحيد الذي وفق إليه العمل مع أنه لم يخل من بعض الهفوات، أما أبطاله فمع تميز أداء الشخصيات الرئيسة إلا أننا لم نر جديداً عند أحدهم باستثناء الفنان جوان خضر الذي أدى دور (برهان) فكسب الرهان في هذا العمل الذي لم نر فيه هدفاً يستحق ذلك الصدام مع الجمهور.
وإن رأى أحدٌ أنّ العمل يعود بالدراما السورية إلى مجدها أقول: إن الدراما بلغت ذروة مجدها حين كسرت قوالب الأفكار دون أن تخدش زجاج العيون.
بقلم : نورهان النداف
0 Comments
إرسال تعليق